Monday, May 26, 2008

فَطـَاحِلُ الْمُـوَاءْ

لا يشك عاقلٌ، يتمتع بمقومات عقله، أن هذه الأمة، وفي زمن سحيق كانت البشرية تعيش البداوة والتوحش، قدّمت حضارة عظيمة سجّلت لنفسها سبقاً في ميادين الحياة، يشهد لها الغربييون قبل الشرقيين.المسلمون حين وصلوا إلى أطراف باريس، في القرن الأول للهجرة، عابرين بلاد الأندلس (إسبانيا وبرتغال الآن) أسسوا حضارة هي الأعظم، واستمرت ثمانية قرون.وصل رحّالون مسلمون بلاد الإسكندناف، ووجدوا قبائلها همجاً ليست لها لغات تتفاهم بها، وتغتسل ناسها بالكاد مرّة في كلّ عام، حاسبةً أوساخ أبدانها بركات السماء!
كانوا يستعملون الإشارات للتفاهم في ما بينهم. وإذا تجمعوا لشن حملةٍ على غيرهم، فلا يردعهم شئ في قتل الرجال والنساء، والأطفال والشيوخ أي رادع.
وكانوا دوماً ينهبون الممتلكات، ويحرقون البيوت، ويغتصبون الفتيات ويصنعون الخراب وينشرون الرعب والإرهاب.هكذا وبأوامر الكنيسة تجمّع الصليبييون في عموم بلدان أوروبا، الغارقة في ظلمات الجهل والظلم، يجيّشون على حاضرة الإسلام، وأشمخ بلاد العالم بل والمتفردة بإمتلاك الحضارة والعلم والعدالة. في قرطبة وحدها كانت هناك أربعمائة ألف كتاب. طبٌّ وهندسةٌ ومعمار في أوج ما يكون. أكبر المساجد والمدارس في العالم، بناها المسلمون من العرب والبربر صروحها في أوروبا، الماضية في الجهل والشرّ والبداوة.


في عام 897 هـ سقطت أندلس في يد الوحوش التي يندر لها مثيل في التأريخ، إلا ما كان متصلاً بحيلةٍ أو أخرى بالمصدر الذي توّلدت منه تلك الوحوش وأمثالها!
وتأسست محاكم التفتيش، تلاحق حتى المسلمين المتـــنصّرين الذين أخفوا إسلامهم تقيّةً. محاكم التفتيش أذاقت المسلمين صنوف العذاب وألوان الهول. كان الواحد يُملأ بطنه بالماء حتى يغرق. كانت هناك أدوات لقلع اللسان، وربط الواحد داخل التابوت تدخل فيه المسامير ببطئ، ومطاحن لطحن الأجساد وعظامها، دفن المسلمين أحياء...!!!
في يوم واحد أحرق في غرناطة وقرطبة أكثر من ثمانين ألف كتاب، قام بحرقها (كننيس) أحد رؤوساء أساقفة الصليبيين!في يومٍ واحدٍ فقط، أنتخب أجمل سبعة آلاف فتاة مسلمة، في غرناطة، وسُبينَ إلى ملك الصليبيين فرناندو وزوجته إلزابيث. في قرطبة أغتصبت أربعة عشر ألف فتاة مسلمة. المساجد التي بناها أمجاد المسلمين حوّلت إلى كنائس!!!البلاد التي حكمها المسلمون ثمانية قرون، بأرقى اشكال نظام يمكن للبشر إقامته على الأرض، إختفى فيها أمجادنا ولم يعد هناك من مسلمٍ واحد، وأبيدوا عن بكرة ابيهم!


إذا تحدثنا عن تلك الأهوال نحتاج إلى مئات المجلدات.وفي المشرق حيث أمواج الصليبيين كانت تفتك بالمسلمين ذبحاً وحرقاً ونهبا، وفي إنتصار بطولي للمسلمين بقيادة صلاح الدين الأيوبي، لم يُعامل الصليبييون المنهزمون معاملة الذلّ والإهانة والفتك!
المسيحييون والأديان والطوائف الأخرى عاشوا بسلام ووئام تحت حكم الدولة الإسلامية، دون أن يتعرضوا إلى حرق أو هتك أعراض أو نهب ممتلكات. ولم تحرق مكتباتهم، ولم تُحتل كنائسم أو دور عبادتهم لتكون مساجد!ولكن على مدار التأريخ كلّما كانت للغرب سطوة وسلطان، في عهد الصلبان أو في عهد التنوير أو في واقعنا المعاصر في ظل الديموقراطية والعولمة، كان نصيب المسلمين القتل والعذاب والتدمير والسجون والحراب.في الجزائر قام الفرنسييون يقيمون (محاكم تفتيش) أخرى، وعلى أثرها سميت الجزائر ببلد المليون شهيد. في عموم المغرب العربي، وفي ليبيا ومصر والسودان وبلاد الشام والعراق وكُردستان، أذاق الأوروبييون المسلمينَ شتى صنوف الإبادة والعذاب والخراب والنهب.
في البوسنة أبيد المسلمون ألوفاً ألوفا، وبُقرت بطون الحوامل، وقُتل الناس كما قتلوا في قرطبة وغرناطة قبل خمسة قرون. في الشيشان فتك الروس بالمدنيين، كما فتكت القيصرية بأجدادهم والمسلمين الآخرين من القوميات الأخرى. في أفغانستان وفي فلسطين وفي العراق شاهدنا ونشاهد بأم أعيننا كيف زحف الغربييون واحتلوا هذه البلدان بححج كاذبة، كشفوها بأنفسهم، ثم لم يتورعوا في إنزال الفتك العظيم بالمسلمين، وإغتصابهم وتدميرهم ونهب أموالهم وتدمير حياتهم.

وفوق ذلك أذلّوهم، وأطلقوا الألقاب عليهم كالإرهابيين، وأعداء الديموقراطية وما إلى ذلك. كما سمّوا بالأمس المسلمين بالمورسكيين في أندلس، إحتقاراً لهم. والمورسكي أي المسيحي المزوّر، ويعني المسلم المتـــنصّر، ليكون أدنى شأنا!ومن قاوم هذا العدوان، أسموه بألقاب أصبحن اليوم علامات فارقة تفصل المسلمين عن الآخرين، في إشمئزاز وإزدراء وتحقير. وهذا جزاءً لهم وحتى يظلوا يشعرون أنهم أدنى شأناً وأنقص جوهرا!
وخرج علينا في صفوف نشاز، قبيحة الأوصاف، كريهة التجاليد والمنظر والأطراف، من الأذلاء المُستجْدينَ بأبواب الأجنبي يرغون: إن الغرب أعلى شأناً وأرقى ذوقاً. أناسٌ سبروا سطحاً رقيقاً من بقايا الآخرين، ونهلوا من مظاهرهم ما أسموه فكرا!خرجوا في غلظةٍ أبدية، يحسبون كونهم من هذه الأصقاع عاراً، لا يغسله إلا تفريغ الغضب والشتم ضد كلّ من يقول: لا لهذا التأريخ الطويل من الإجرام بحق مكوناتنا الشرقية، في ظل إحتلال هذا الأجنبي الذي لم يبد رحمة يوما!

هؤلاء فطاحل المواء. يهوّلون إذا قيل شئ بحق الشماليين/الروم الشقر، أو كتب مقالٌ ينقد شططهم وهمجيّتهم بحق المسلمين، أو شكى من تجاوزاتهم على مقدساتنا، أو تظاهر الأنام ينددون بجرائم القوم ضد من لا حيلة لهم، مثل الملايين التي قضت نحبها بقنابل وصواريخ جيوش الديموقراطية. فطاحل المواء يفُسرون ذلك بالتخلف، والفوضى والغباء!
فطاحل المواء وكغيرهم، أمسوا طوعاً أو كرهاً عبيد الشاشات، تستقر في أذهانهم الصورة التي يُراد منها أن تغطي عقولهم، وتسلب فكرهم لوجهةٍ، الغربُ مولّيها شطر مفترق الطريق: غرب متفوق وشرق مهزوم، شمال طيب وجنوب خبيث!
وإلا فما السرّ في حضور حادث الحادي عشر من أيلول، في أذهان الجمع كلّ حين، حتى أمسى كعقيدة دينية تصنّف الناس والتخوم، ليصبحنّ همّنا بالتعويذة من إنتقام المنتصر لنا حظاً وفيراً وعزّاً مجيدا، بل وتسامحا ميمونا؟!

لكن المئات من الألوف من أبريائنا منذ ذلك اليوم وبعده، وقبله بقرون، يُقدَّمون ضحايا في مذبحة الغرب، لم تستكن شهوته بتذليلنا أكثر، لكنهم نُسيوا ولم تتحول صورتهم في الذاكرة كالحادي عشر من أيلول، وكأنهم ذبابُ تُركوا أو جيفة أزهدت نفوس الأحياء لفتتها.هل تتذكرون عليّا (في العراق) بُترت ساعداه فاقداً كلّ عائلته، بقصف طائرة الغرب، ومن ثم طواه النسيان؟!هل تتذكرون عرس عائلة في كابول، قصفته طائرات أميركا وقتلت أكثر من مائتي شخص؟!هل تتذكرون قانا وإبادة عوائل بكاملها، في مذبحة فاقت ثلاثمائة من المدنيين؟!هل نتذكر القصف العشوائي للفلسطينيين وذبحهم بالمئات والألوف؟!هل تحولوا إلى رموز ضد الشرّ وحوادث ماثلة دائماً في الأذهان؟!في قيم الغرب لا! وفي ذهن فطاحل المواء كلّا!

لكن الحادي عشر من أيلول، ولوكربي، وإنفجارات مدريد (مجريط بالعربية) ولندن، هي التي لُطمت لها الصدور وشقّت لها الجيوب في إعلام الغرب اللاغي، ولغو فطاحل المواء الهاذي! ولم يُسمّ أحدٌ قائد الطائرة التي قصفت عرس أفغانستان إرهابياً، ولا الجنود الذين أقتيدوا بدافع تعاليم دينية، ورونق الأموال، بحجة البحث عن أسحة الدمار الشامل في العراق. ثم لم يجدوا غير المساكين أهلكهم حصارٌ ظالمٌ لعقد ونصف من الزمن!
سال الخراب، وفطاحلُ المواء ظلوا خاشعة أبصارهم، يرهبون خفية في أنفسهم سطوة السيد العظيم، فيبالغون في تنكيس رؤوسهم لكي ينالوا بركته، فظلوا يرددون ما يقوله المنتصر:فلان إرهابي، متحجر، متخلف، قُروسطي، يقتل الأبرياء (يقصدون ضحايا الغرب)، عدوّ السلام والحضارة...!يبالغ الفطاحل والصورة عندهم واحدةٌ لا تتغير، قسّمتها ريشة فنّانهم السيّد في تقسيمنا إلى فريقين أحدهما نجسٌ شرير (الشرق) وآخر مصدر الخير (الغرب)!
فرناندو المجرم حانث الحلف والعهد، مطيّر رؤوس المدنيين، ومُغتصب فروج الفتيات البِكر من المسلمين، رُسمت له منذ قرون لوحة منصوبة على الجدران المزخرفة من أعمال المسلمين، بوصف أقلّه إنحطاط الخُلق والخليقة:فرناندو ممطتياً جواده، وممثل المسلمين جالساً على ركبتيه يسلّم مفتاح المدينة في ذلّ!
الغرب هو هكذا، فرناندو مجرم، متخلف لا يفقه شيئاً من الحضارة، أفضل من مسلم يبني حضارة لقومٍ يعيش البداوة والتوحش!اللوحة معلّقة عالية في إسبانيا، ترمز بزهوّ لإنتصار الغرب، يمجده الأوروبييون!!وعندنا فطاحل المواء لم ينبسوا ببنت شفة عن أكثر من مائتي ألف سجين سياسيّ في دول قومية/عَلمانية ببلاد المسلمين (تحكمها أنظمة لا دينية مدعومة من الغرب)، ومعظمهم من الإسلاميين!!
ولو رأى المرء ما يُفعل بهم، لاستهوته أحزان، وتملّكه غثيان، وقلبه حيران!في الجزائر كي لا ينعم الإسلامييون بحلاوة النصر، أفتدي بمائة ألف برئ من الجزائريين، ترضية للإفرنجة. وفي سوريا العَلمنة والإشتراكية أبيدوا ألوفاً دون تفريق بين شيخ ورضيع وإمرأة ورجل، أو سقيمٍ أو صحيح. وقل ذلك عن الأنظمة الأخرى في بلادنا والديار الأخرى.

يُذبحون ويُهتكون ويُنبذون وتشوّه صورتهم في أقسى معاملة، وأحط مظهر.وفطاحل المواء، يطلقون عنان خيالهم خلف قطار أولئك، كيف مضت سكة مصلحة الغرب وشهوته!وليس لهم الحق ولا لنا، في توصيف مجرمي أقوام الغرب، أو وضع نعوت عليهم، مهما كان الخطب عظيماً، والنازلة ثقيلة، والوضع توحّشا!
وحتى لو وصفنا، لا يبلغ القول مسامع القوم، ولن ينال قيمة عملة شرعية للتداول!ولكن إذا غضب وانفجر شرقيّ أو مسلم من شدة هول المأساة، فصرف كلّ طاقته أمام نيران الطائرات والمدافع التي تحتل بلاده، فرّغ الفطاحل (فلسفة كلامهم) في سبطانة المواء، يطلقون أشدّ حدة من العدى نيران التشهير، نحو المحاربين الشرقيين، أنهم "إرهابييون يجرّوننا نحو الهزيمة والتخلف والعار"!!!
قارنوا بين تقديس الغرب لفرناندو المجرم السّفاح، الذي قضى على الحضارة في أندلس، وإحتقار الغرب وفطاحل المواء للذين يرفضون هذه الهيمنة المتوحشة على بلادنا في الوقت الحاضر، والرموز كُثر لا حاجة لتسميتها!قارنوا، تكتشفون الهزيمة العظيمة التي يموء في أعماقها فطاحل الديموقراطية والحداثة في بلادنا!
علي سيريني
alisirini1@gmail.com

Sunday, May 11, 2008

مستقبل الإصلاح السياسي في العالم العربي

ما زال دعاة القومية العربية، الذين جددوا في العقود الأخيرة منطلقات الخطاب القومي العربي التقليدي، يعتبرون حتى الآن أن تحقيق حلم الوحدة العربية حتى لو كان ذلك في حدود التنسيق بين سياسات الدول العربية، هو الحلم الذي ينبغي العمل الدؤوب على تحقيقه في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية.
وعرضنا في المقال الماضي للمحاولات المتعددة لاستشراف مستقبل الوطن العربي من خلال مشروعات بحثية يقوم بها أساساً «مركز دراسات الوحدة العربية» في بيروت، وأحدثها مشروع بحثي قيد الإعداد اجتمع مجموعة من الخبراء العرب لمناقشته في القاهرة، ويقوم المشروع - كما ذكرنا من قبل - على أساس رسم سيناريوهات متعددة للمستقبل، هي السيناريو الكارثي، أي بقاء النزعة القطرية على حالها، والسيناريو السلبي الذي يسعى لإبقاء تماسك الكيانات القطرية، والسيناريو الإصلاحي والذي يتمثل في سعي الدول القطرية الى إدخال إصلاحات في نظمها السياسية، وأخيراً السيناريو الإيجابي وهو باختصار سيناريو الوحدة العربية أياً كان شكلها.
ورغم مشروعية الحلم بتحقيق الوحدة العربية، إلا أن هناك مؤشرات متعددة كيفية وكمية تشير إلى أن تحقيقه في الأجل المتوسط وقد يكون في الأجل الطويل - نظراً لظروف متعددة خارجية وداخلية - صعب التحقيق. وفي تقديرنا أن حلم الوحدة العربية لا يمكن أن يتحقق إلا إذا قامت الدول العربية القطرية بنظمها السياسية المتعددة بإصلاح سياسي شامل.
وهذا الإصلاح السياسي يطلق عليه في أدبيات علم السياسة التحول الديموقراطي، وهذه العملية عبارة - بحسب التعريف - عن الانتقال من نظم سياسية شمولية أو سلطوية إلى نظم ديموقراطية وليبرالية.
وأدت العولمة بتجلياتها السياسية وأبرزها الديموقراطية واحترام التعددية وحقوق الإنسان، والتي أصبحت شعارات «معولمة»، إلى أن يحاول المجتمع الدولي، ممثلاً بالدول الغربية الكبرى والمجتمع المدني العالمي، فرضها فرضاً على الدول العربية، وهذا الفرض يأخذ شكل الضغوط السياسية والاقتصادية.
ولا شك أن أحداث 11 أيلول (سبتمبر) ونعني الهجوم الإرهابي على الولايات المتحدة الأميركية الذي قام به - حسب الرواية الأميركية الرسمية - إرهابيون عرب مسلمون، هو الذي دفع بإدارة الرئيس بوش وهي تعلن حربها الكونية على الإرهاب أن تعلن مبادرة سياسية كبرى هدفها فرض الديموقراطية فرضاً على الدول العربية، حتى ولو اتخذ ذلك - في صورته القصوى - شكل التدخل السياسي، الذين يهدف إلى تغيير بعض النظم السياسية العربية باستخدام القوة، ولعل نموذج الغزو العسكري الأميركي للعراق بزعم أن نظامه الديكتاتوري يمتلك أسلحة دمار شامل من شأنها أن تهدد الأمن القومي العالمي، صورة بارزة لخطورة دعاوى التدخل السياسي، بمعنى تغيير الأنظمة السياسية بالقوة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن مبدأ التدخل السياسي ليس له أي سند في القانون الدولي، بل هو في الواقع مضاد للشرعية الدولية.
غير أن الضغوط الدولية على الدول العربية لتحقيق التحول الديموقراطي استمرت، تضاف إليها مطالب الداخل العربي، ونعني بذلك مطالبة عديد من الأحزاب السياسية والمثقفين العرب ومؤسسات المجتمع المدني بتحقيق هذا التحول، لأنه أصبح ضرورة حتمية، بعد أن دخلنا في القرن الحادي والعشرين وودعنا القرن العشرين، والذي كان زاخراً بالدول الشمولية والسلطوية.
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه ما هو المضمون الحقيقي للتحول الديموقراطي؟
في الإجابة على هذا السؤال يجدر بنا أن نعتمد على نظريات علم الاجتماع التي تعرّف نظرية التغيير الاجتماعي المخطط، وهذا التغيير يقوم على أربعة أركان: الأول وجود رؤية استراتيجية للتغيير، والثاني تحديد القوى السياسية الاجتماعية التي تضغط في سبيل التغيير، والثالث طرق مواجهة مقاومة التغيير، والرابع أهمية رصد التقدم في عملية التغيير عبر الزمن.
وتواجه التحول الديموقراطي العربي صعوبات متعددة سياسية واجتماعية وثقافية
ومن بين الصعوبات الثقافية الزعم بأن ثمة خصوصية عربية راسخة لا تسمح بتطبيق الديموقراطية على النسق الغربي. والواقع أن هذه الحجة ترفعها بعض شرائح النخب السياسية الحاكمة العربية لعرقلة التحول الديموقراطي حفاظاً على نفوذها السياسي وأوضاعها الطبقية. وذلك لأن الديموقراطية الغربية وإن كانت ليست لها نظرية ثابتة يمكن تطبيقها على كل مجتمع في العالم، إلا أن هناك إجماعاً على مفردات الديموقراطية، وأهمها على الإطلاق تداول السلطة، والانتخابات الدورية النزيهة سواء كانت رئاسية أو برلمانية أو محلية، وحرية التفكير وحرية التعبير وحرية التنظيم، في إطار الدستور والقانون.
والصعوبات السياسية التي تثيرها النخب الحاكمة العربية هي أن التحول الديموقراطي لا يمكن أن يتم مرة واحدة، وإنما هو يحتاج إلى أن يطبق بطريقة تدرجية عبر سنوات طويلة، وإلا اختل الاستقرار السياسي الراسخ. غير أن هذه حجة مردودة لأن هذا الاستقرار السياسي المزعوم لا يتم في العادة إلا من خلال قهر الجماهير وتقييد حركتها التقليدية، وتقليص دوائر المشاركة السياسية.
إلا أنه يمكن القول إن ثمة صعوبات اجتماعية وثقافية تحول دون إتمام التحول الديموقراطي العربي في زمن معقول، ولعل أهم هذه الصعوبات قاطبة هي سيادة القبلية في المجتمع العربي، والتي تتحول إلى قبلية سياسية تؤثر تأثيرات سلبية في الانتخابات واختيار القيادات، كما أن بعض النظم السياسية العربية تقوم على أساس الشرعية السياسية لنظم تقليدية تحكمها عائلات محدودة العدد منذ مئات السنين، يعد ذلك ولا شك قيداً على التحول الديموقراطي، لأن الديموقراطية تعني في المقام الأول التعددية السياسية والحزبية، وعديد من هذه النظم لا تسمح أصلاً بقيام أحزاب سياسية معارضة، ولا أحزاب سياسية موالية للنظم.
وبالإضافة إلى ذلك هناك نموذج الدول الريعية التي تقوم أساسا في تحصيل إيراداتها على النفط، وهي تقوم بعملية التوزيع بشكل يضمن عدم ظهور قيادات سياسية معارضة تطالب بالديموقراطية.
وبغض النظر عن كل هذه الصعوبات السياسية والاجتماعية والثقافية يمكن القول إن المجتمع العالمي في العقود المقبلة لن يتسامح إطلاقا مع أنماط الدول الشمولية والسلطوية. ومن هنا لا بد من باب المبادرة الاختيارية أن تشرع النظم السياسية العربية رغم تعدد أنماطها في عملية التحول الديمقراطي.
وهذه المهمة تبدو سهلة نسبيا في البلاد العربية التي لها ماض ديموقراطي وليبرالي مثل مصر وتونس والمغرب وسورية ولبنان والسودان، مع تفاوت في درجة مقاومة الطبقات الحاكمة فيها لهذا التحول
غير أن المهمة تبدو أصعب حقاً بالنسبة الى النظم السياسية العربية الشمولية التي جمدت نمو المجتمع المدني، وتلك التي لم تسمح أصلاً بقيامه. ومن هنا يمكن القول إنه إذا كان يمكن - نظريا - التحول من السلطوية إلى الديموقراطية إلا أن التحول من الشمولية إلى الديموقراطية يكاد يكون مستحيلاً إلا إذا حدث انقلاب أو قامت ثورة، وفي جميع الأحوال هناك اتفاق على مرتكزات التحول الديموقراطي وأهمها على الإطلاق وجود دستور ديموقراطي بحيث تكون السيادة للشعب والمواطنة متساوية بالنسبة لجميع المواطنين، بالإضافة إلى تداول السلطة، وسيطرة أحكام القانون والمساواة الكاملة.
ومن ناحية أخرى لا بد من توافر مؤسسات للحكم الديموقراطي في شكل مجالس نيابية وأحزاب سياسية، كما أنه لا بد من الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. وأصبحت الآن مؤسسات المجتمع المدني من ضرورات النظم الديموقراطية بالإضافة إلى الصحافة الحرة.
وبالإضافة إلى التحول الديموقراطي لا بد من تحقيق ضمانات الليبرالية وأهمها ضمان الحقوق والحريات العامة وتحقيق الشفافية والمحاسبة والمساءلة
بعبارة مختصرة فالمهمة التاريخية الملقاة على عاتق الدول العربية كافة، ومهما اختلفت نظمها السياسية هي السعي لتأسيس الدولة الحديثة التي عجزنا عن إقامتها منذ عصر النهضة العربية حتى الآن. ومعنى ذلك أن محاولات تحديث المجتمع لن تغني إطلاقا عن ضرورة تحديث الدولة.
عن صحيفة الحياة11/5/2008
بقلم /السيد يسين